سجل إميلك وتوصل بمواضيعنا :

بقلم الكاتبة فاتنة الجمل : عندما تصبح «اللكمة» وسيلة التفاهم!


عندما تصبح «اللكمة» وسيلة التفاهم!


 فاتنة الجمل


تشبثت أنامله الطرية بعنق والده، في حين اختلطت دموعه بصرخاته «بابا، لأ لأ، خلص، مشان الله خلص».
وإذا باليد التي كانت يوماً مصدر الأمن والسلام،

مصدر الحماية والقوة، تقتلعه وتقذف به في ركن الغرفة. التصق جسده الغض الصغير بالباب الحديدي بعد أن ارتطمت أحلامه بحافته، فنزف رأسه، وسالت دماؤه الندية تطهر ما علق بتلك البقعة من قذارة بشرية. في الطرف القصيّ من الغرفة، حيث بدأت الحكاية، ما زال الضجيج يملأ الهواء، أصوات ارتطام العصي والأحزمة والأحذية وغيرها من الأشياء بالجسد ذاته، تقذف عليه من اليد ذاتها، من القلب المحب إياه، من الرجل نفسه. اختتمت سواعده المشهد، بعد أن هده التعب، تفقد هندامه في المرآة، غسل ما علق بيده من دماء، وتوجه لعمله. «صباح الخير أبو غالب، كيف الصحة؟» استقبله بواب العمارة بابتسامة عريضة ودعواته له بأن يقضي يوماً جميلاً. «تمام، مبسوط بشوفتك»، ردّ بطل الحكاية بهدوئه المعتاد وانطلق يواصل يومه.

بندول الساعة يرقص على إيقاع معزوفة الموت، تك تك ... تك تك، عادت خيوط الوعي إليها شيئاً فشيئاً، جرت جسدها المنهك حيث يقبع طفلها، لفّت بقايا جثتها بملاءة وانطلقت إلى المستشفى. دموعها محبوسة في مقلتيها لا لحرجها من البكاء، بل لعجز بيولوجي إثر اللكمات التي تلقتها. تلقاها الأطباء وباشروا عمليات العلاج والتطبيب، دون أن يتفوه أحدهم بكلمة أو يوجّه سؤالاً من أي نوع. فالمشهد يتكرر أمامهم أسبوعياً إن لم يكن يومياً. وبعد أيام، خرجت وطفلها من المستشفى بعد أن كتب الطبيب لها أدوية تساعد على إخفاء آثار الضرب المبرح الذي أصابها مع الأيام ونصحها بالتوجه لأقرب مركز شرطة والإبلاغ عن الحالة أو التوجه إلى بيت أهلها ريثما تهدأ الأمور. ضحكت في سرها، عن أي أهل يتحدث هذا الرجل؟ عن أبيها الذي لا تفارقه الكحول؟ أم عن أخوتها البلطجية؟ أم أمها اللي «ما عندها بنات تتطلق»؟ أي عائلة وأي أهل!

راحت تتجول هائمة على وجهها في شوارع المدينة، والهواء البارد يسدد لها لكمات هو الآخر، سرحت مخيلتها سنوات للماضي، «لم يسبق أن أحببت أحداً بقدر ما أحبك، روحي تفداك»، هل يعقل أن يكون نفس الرجل الذي تزوجته؟ أهو نفس الإنسان الذي وعدها بالحماية والأمن والحب الأبدي؟ وبعد أن أرهقها السير وحمل طفلها على يديها، وجدت حائطاً متداعياً، أرخت كتفها عليه، أسدلت جفنيها، واستكانت.

هنا، انتهت حكاية إحدى النساء لتبدأ في مكان ما حكاية مشابهة، ربما أكثر فظاعة وأشد بشاعة لأخرى، في ظل مجتمع بات العنف بأشكاله المختلفة فيه سمة يومية، لا تستدعي الأسى ولا تستوجب التحرك. فالمجتمع الفلسطيني، نسي في أهم قيم التحرر الإنسانية، وبات الهمّ الوطني مسوغاً يستعمل لستر العورات بدل أن يكون حافزاً لمزيد من التلاحم البشري والتعاضد الإنساني بين الفلسطينيين أنفسهم. العنف ضد النساء والأطفال جريمة يعاقب مرتبكوها بالسجن في كل دول العالم حتى النامية منها، فلماذا تتستر عليها القوانين الفلسطينية والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية؟ لماذا تصرّ العائلة الفلسطينية على أن الاعتراض على العنف عار يلحق بالأسرة ومن تبعها؟ لماذا يدّعي المجتمع تشبثه الشكلي بالديانات ويغض النظر عن الإنسانية والرحمة التي تنادي بها؟ لماذا تتعرض النساء والأطفال للضرب المبرح والقتل فتصبح «الدولة» ضريرة وخرساء وصماء وعاجزة عن العمل؟ لماذا هذا التواطؤ المشترك بين كافة أطراف المجتمع للتستر على الجرائم الإنسانية التي يرتكبها أفراده بحق بعضهم؟ لماذا نعامل بالسخرية والنبذ والاحتقار كل من أشار ببنانه لمرتكبي هذه الجرائم؟ ماذا ننتظر لنضع حداً لكل من تسول له نفسه ارتكاب جرائم معادية للبشرية في مجتمعنا؟ آن الأوان لأجهزة الدولة الرسمية في فلسطين لأن تضع حداً لهذا الداء المتفشي في المجتمع لتعود «الكلمة» لغة الحوار ووسيلة التفاهم.

fatinao.jamal@gmail.com

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...
Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
Free Web Hosting